حلب سيمفونية الابداع الصناعي
سامي صايم الدهر ومصطفى اوبري
سامي صايم الدهر 1935 - مصطفي اوبري 1990 |
الحلبيون بشكل عام متذوقون للموسيقى سميعة متميزون , يطربون للآذان المرفوع
من مآذن مساجدهم أو ترتيلة من صبية في
إحدى كنائسهم كما يطربون لوصلة موشحات من محمد خيري اوصبري الملل .
وهم ذواقون للطعام الطيب , متبحرون في إسرار التوابل واستخداماتها ,
والمطبخ الحلبي لا يضارعه مطبخ في العالم , وقد ينافسه المطبخ التركي في اللحوم ولكنه
يتنحى له في المحاشي والكبب .
ولعل التعددية التي حظيت بها حلب من تنوع ديني (مسلمين ومسيحيين ويهود) وعرقي
(لعرب وكرد وارمن) والاجواء التي سادت هذه التعددية من تسامح وتعاون ومحبة , وانصهار
هذه المعطيات أدى إلى تكامل أنتج الشخصية
الحلبية التي لا تخطىء فيها كل تلك التعدديات السابقه .
وانفتاح المدينة على الثقافة الغربية بوجود المدارس العربية والاجنبية ساهم في ترسيخ أطر حضارية حافظت عليها هذه
المدينة واغنت تراثها وثقافتها في مختلف الجوانب .
والطموحات لدى الشخصية الحلبية لا سقف لها , وروح المغامرة متجذرة في
اعماقها , مما ابرز الكثير من الشخصيات التي اشتهرت وعرفت بإبداعاتها الفنية
والتجارية والصناعية .
ومن خلال اطلاعاتي على الإبداعات الصناعية لشخصيات صناعية متميزة استوقفتني
شخصيتان متألقتان تميزتا بأحداث طفرة على الصعيد الصناعي في بلاد الشام .
الشخصية الأولى هي شخصية المغفور له الحاج سامي صايم الدهر الذى تحكى عنه
الحكايا وتروى عنه وعن أعماله الروايات فقد كانت له اليد الطولى في تأسيس غرفة
صناعة حلب عام 1935 ورأس الغرفه بعد ان وضع صناعة النسيج في طريق التطور والحداثة والازدهار
وذلك في عز الامة المالية العالمية وابتلاء سوريا بالانتداب الفرنسي البغيض . ولانني
عرفت هذه الشخصية بشكل افتراضي فيما قرأت وسمعت سأترك الحاج سامي يتحدث عن
انجازاته كما ورد في مقابلة صحفية مع المضحك المبكي المصورة في (العدد رقم 1 بتاريخ
30 ايار 1936 ):
" الحاجة ام الاختراع والحاجة هي دعتنا للسير إلى الامام في تحسين
صناعتنا القديمة ونحن لم نخترع ولكننا اقتبسنا ما اخترعه الغير فقد بدأ ابناء
الصناعات منذ اخذت الازمة المالية تشد الخناق على هذه البلاد يفكرون بطريقة تجعلهم
في غنى عن كل مايرد اليهم من البلاد الاجنبية وانصرفت الاذهان منذ عام 1923 الى
استعمال الوسائل الصناعية التي استعملها الاجانب وكنت في هذه المدينة اول من اخرج
الفكرة خاصة فيما له علاقة بالنسيج من حيز التصور والقول الى حيز التنفيذ وكان
المعمل الذي اسسته اول معمل للنسيج الوطني ولست لأسرد المصاعب التي تكبدتها في
بادىء الامر لانه لا يخفى عليكم ان كل عمل في بدء امره يكلف صاحبه كثيرا الى أن يثمر عليه ، غير انني جعلت خدمة الوطن نصب عيني وقاومت المرحلة الاولى بجهود جبارة الى
ان وصلت للغاية التي توخيت وتكللت اعمالي بالنجاح وذهبت الى فرنسه وبعد ان اطلعت
على صناعتها ومنسوجاتها واقتبست منهجا في صناعة النسيج عمدت الى ايجاد "الماكنات" الفنية ، فأخذ الكثبرون يتبعون الطريقة التي سلكت .. وها نحن نعد اليوم في حلب خمسة عشر معملا فنيا
للنسيج وهذا التقدم في صناعة النسيج حدا
بالصناعات الاخرى التقدم فارتقت صناعة الصباغة الى درجة كافية لتأمين الحاجة وانشئت
مصابغ فنية عديدة في البلاد السورية ولكنها مازالت بحاجة الى التحسين وكذلك كان
شأن الانسجة الصوفية والكلسات والقمصان الداخلية والخ.....
-
كم كانت البلاد تستورد من النسيج الاجنبي وكم يرد اليها اليوم .
-
لقد بلغ مجموع ماورد من الانسجة الحريرية والمخامل ( والدانتيل) وما شاكلها
من البلاد الاجنبية الى البلاد السورية خلال الثلاثة اشهر الاخيرة من عام 1935 ما
بلغت قيمته 457039 ل.س بينما لو عدنا الى عام 1924 وما بعد لوجدنا ان قيمة ماكان
يردنا من هذه الاصناف تبلغ اربعة او خمسة
اضعاف هذا المبلغ .
-
وماهو عدد العمال الذبن يشتغلون في صناعة النسيج في حلب :
-
مايقارب العشرة آلاف عامل , وهؤلاء متفرقون بين المعامل الفنية المنشأة على
الطراز الحديث والمعامل القديمة ذات الطراز العربي القديم
-
هل يصدر شيء من مصنوعاتنا ونسيجنا الى الخارج والى اي البلاد ؟
-
لقد سدت جميع الابواب في وجه المصنوعات السورية فالمنفذ الاكبر لبلادنا هي
البلاد التركية والعراقية ولكن السياسة حكمت فقضت ! وأصبح ما يصدّر من بلادنا اليوم
لا يستحق الذكر لأن فلسطين هي المنطقة الوحيدة التي تستورد القليل من منتجاتنا .
-
وماهي المواد الاولية التي تحتاجها صناعاتنا الوطنية ؟ وهل يمكن لبلادنا سد
العجز من هذه المواد ؟
-
ان كافة المواد الاولية التي تحتاجها صناعاتنا الوطنية تستورد من الخارج وليس
لبلادنا ان تسد العجز من هذه الجهة , لان ذلك يحتاج الى معامل واسعه تكلف الكثير
من المال وليس لمنتوج هذه المعامل فيما لو تأسست من منفذ لتصديره اما الخيوط
القطنية فنؤمل ان تقوم شركة
الغزل والنسيج التي تأسست مجددا في حلب مع المعمل الموجود في طرابلس بسد
حاجة البلاد بأسعار معتدلة .
وقد ختم الحاج سامي صايم الدهر حديثه مشيرا الى ضرورة العناية بأمر العمال
الذين يزداد عدد العاطلين منهم يوما بعد يوم قائلا بأنه اذا لم تلغ الحواجز الجمركية
بيننا وبين العراق وفلسطين فإن عدد العمال سيزداد يوماً بعد يوم.
وما تحقق على يدي
هؤلاء الرواد معجزة حقيقية بكل المقاييس واستمرت النجاحات ...
كان لمعرض دمشق الصناعي 1936 سبق التعريف بالمنتجات السورية وكان لشركة صايم الدهر جناح متميز .
كان لمعرض دمشق الصناعي 1936 سبق التعريف بالمنتجات السورية وكان لشركة صايم الدهر جناح متميز .
قدم الاستقلال السوري لرجال الأعمال السوريين أجنحة أوصلتهم إلى العالم وتسهيلات
حولت البلاد إلى ورشة عمل وإنتاج وأضحت عبارة صنع في سورية علامة من علامات الجودة
في العالم . وشريانا يضخ الثروة في البلاد ويعم بالخير على الجميع .
هلل السوريون بمعظمهم للوحدة السورية المصرية , ومنعتهم اندفاعاتهم القومية
من إعمال العقل لقيامها على نحو مدروس يؤمن لها الاستمرار ويأخذ بنظر الاعتبار
خصوصية كل قطر على حدة ,
كانت زيارة الرئيس جمال عبد الناصر لحلب عرسا حقيقيا لكل الحلبيين وعلى
رأسهم الحاج سامي الذي ناب عن اهل مدينته بتكريم أقطاب الوحدة بكل إمكاناته , فكوفئ هو وأمثاله من الفعّاليات الصناعية بالتأميم .. هذا الخنجر الذي اغتال أعلام دعائم الاقتصاد السوري ورموز تطوره ,
وحول تلك المنشآت الى كيانات متدهورة يعيث فيها الفساد وترهق البلاد والعباد
بخسائرها حتى الان وقد مضى نصف قرن .
اذا كان للمدن ان تكرم مبدعيها , فمن حق المرحوم الحاج سامي صايم الدهر أن يكون له تمثال في إحدى ساحاتها للذكرى والعرفان .
مصطفى اوبري ينتمي الى بيت من بيوتات حلب الصناعية التي قوضت اركانها قرارات
التأميم التعسفية ابان الوحدة التي ذكرناها آنفا , فوالده الحاج محمد شيخ
الصناعيين واخيه محمد محمد اوبري الذي ورث مشيخة الصناعيين في حلب عن أبيه ورأس الغرفة
الصناعية في حلب نيفا وثلاثين عاما وأعتقد أنّه مازال رئيسا فخريا للغرفه .
ولأنّ مصطفى اوبري كطائر الفينيق , يتجدد لبداية وانطلاقة , كانت لبنان مركزه
حيث القوانين التي تشجع الصناعة والاستثمار واسس صرحا صناعيا ومصبغة عصرية للنسيج
كانت الاولى في العالم العربي واتسعت اعماله في التصدير الى كل مكان .
الحرب اللبنانية التي اكلت الاخضر
واليابس كانت منشأته الصناعية من ضحاياها في ذوق مصبح وتحولت الى ثكنة عسكرية
لفريق من المتحاربين ولازالت تعرف بثكنة "الاوبرلي" حتى يومنا هذا .
اكلت الحرب المنشأة الصناعية والاموال , لكن الخبرات التراكمية التي استقرت
في العقل الصناعي من الاحتكاك والاسفار الكثيرة والاطلاع على التقنيات الجديدة في
العالم ظلت كامنة عند الحاج مصطفى بانتظار فرصة لبداية جديدة .
عانت سوريا في اواخر الثمانينات من القرن الماضي حصارا اقتصاديا طال كل شيء
حتى الغذاء والدواء فكانت سوريا تعتمد على الدواء المستورد لعدم وجود صناعة دوائية
ما خلا منشأتين للدولة وورشات صغيرة لاترقى لكونها معمل ادوية .
لمعت الفكرة الصناعية وكما فكّر قبله الحاج سامي "الحاجة ام الاختراع" كانت الرحلة الى الدول الأوربية لإجراء عقود لصناعة مستحضرات صيدلانية بامتياز
مع احدى الشركات الكبيرة للتعاون معها لإنشاء الصرح في حلب .
وتسلح الحاج مصطفى في رحلاته بجناحين هما اخاه الكبير محمد الصناعي
والقانوني وثانيهما المرحوم جورج مراش الصناعي وقنصل بلجيكا في حلب ورجل العلاقات الدولية
, وكانت الصعوبات كبيرة فما من شركة متعددة الجنسيات تغامر بمنح الامتياز لشركة
سورية وأسباب القلق كثيرة فنية وسياسية
الخ..... ولكن الإصرار والمتابعة حققت النتائج المرجوة لبداية معقولة للانتقال الى
الصرح الاكبر الذي يمتد فوق مساحة تتجاوز المائة الف متر مربع في منطقة الزربه
التي تبعد عن حلب عشرون كيلومتر باتجاه الطريق الدولي لدمشق .
هذا الصرح الذي يعد الأكبر في الشرق الأوسط في المساحة والتقنيات المتعددة لإنتاج
الأدوية البشرية وأدوية المستشفيات والمتممات الغذائية ويتمتع بسمعة عطره لإنتاجه
الذي يصدر إلى عدة دول عربية وأجنبية .
مع وجود أعداد هائلة من الفنيين والعمال , المرحوم مصطفى اوبري يغادر منزله
في الشهباء في السادسة صباحا (حتى يوم وفاته رحمه الله ) ليكون اول الواصلين ولتفقد
الجميع وهم على رأس عملهم , صارما, قاطعا,
مباشرا , لا يترك شاردة ولا واردة , إلا وبضعها
في نصابها , من مستلزمات الإنتاج الى وجبات الطعام التي تقدم لعمال الشركة .
كان مهتما بالاطلاع على كل جديد في عالم الدواء , وقد سخّر اسفاره الكثيرة
في التطوير والتحديث ، وكان يرسل البعثات من العاملين للاطلاع الفني الى شركات
الامتياز الام والى المؤتمرات والمعارض الدولية , استيراد الكتب والمراجع الدوائية
الحديثة اولاً بأول .
وكان اهتمامه بالعامل البشري ورفع المعاناة عن العاملين شغله الشاغل فلا
تجد عاملا من العمال إلا ويسرد لك رواية عن معاناة شخصية او ازمة ساعده الحاج
مصطفى بتجاوزها مادية كانت ام معنوية ويرسل لروحه الرحمات .
مصطفى اوبري الإنسان
اعلم ان شهادتي مجروحة
بالمرحوم مصطفى , جمعتنا الصداقة والعمل فقد عملت مستشارا له منذ التأسيس وحتى
وفاته ورافقته في أسفاره وزياراته إلى معظم بيوتات الأدوية والمستلزمات في الولايات
المتحدة واوربا , وعرفته عن قرب , عرفت فيه الإنسان النقي الطاهر الورع المجتهد في
عمله وصاحب القرار , واللماح الذي تؤيده فراسة في الأشياء والأشخاص , ورغم ما أشيع عنه من سرعة الغضب والعنف , كان
في قرارة نفسه وديعا , خجولا , حنونا على أسرته وأصدقائه , وكان الكرم يميزه
ولايختلف اثنان على كرمه الذي يفيض عن طيب نفس بلا منة .
رحم الله مصطفى اوبري
واسكنه فسيح جناته .
سمعت الكثير عن الحاج
سامي صايم الدهر في طفولتي وعرفت الحاج مصطفى اوبري عن قرب , وتشابه الشخصيتين
دعاني لأكتب عنهما هذا الوجيز رحمهما الله وطيب ثراهما . شموع اضاءة وفيض خير
محمد بسام سلام