الأحد، 3 مايو 2015

تحية إلى قُسنطينة شام وشامة المغرب العربيّ - عاصم المصري






تحية إلى قُسنطينة شام وشامة المغرب العربيّ
لقسنطينة حكايةٌ معي لا تغيب عن نبض الشام؛ في جبالها المحيطة تعرّفت من خلال مناضليهاعلى حرب الجحور، ووقفت على ما كابَدوه ضدّ المستعمر الفرنسي. كان ذلك عندما زرتها في بداية ستينات القرن الماضي لأُبارك لشعبها بعيد التحرير.
لا أحسب أن قسنطينة تقبل أن تكون عاصمة ثقافية للعرب إن لم تعرب لهم بوضوح عن مكنون نضالها، وإن لم يقرأوا تاريخها، ولا من وسيلة لذلك قبل أن يمارسوا حبّ أوطانهم، فيقتدوا بإباء شعب الجزائر، وبثقافة النضال في مزاوجة الحقيقية بين الماضي والمستقبل، في نكران للقطرية وتلاحمٍ بين ضفتي الوطن العربي، وأن تكون الثقافة: نعلم لنعمل ونعمل لنعلم.
بين دمشق أقدم عاصمة في العالم، وقسنطينة عاصمة الثقافة العربيّة اليوم، أواصر تشدُّ التاريخ إلى الجغرافيا بدلالات يمكن قراءتها بعيونٍ معجبة وقلوبٍ محبّة.
دمشق الرابضة في غوطتها والمحصنة بسورها، لا تدخلها دون أن تُقبِّل جبهتها، ودون أن تتلو البسملة كي تهتدي بهدي الرّحمن وتشهد لها بقلب رحيم. دمشق هذه نسجت في ذاكرة الأمّة ومن عبق ياسمينها حلل التاريخ زهواً بفن المنظور واستشفاف المأثور والمأمول. فهي محطّ الأنظار ومرامي الأفكار سعياً لقبس من محصلة ثقافتها، التي إنتخبتها من مشارق ومغارب الأرض بما ميّزها شَرَفاً، وكرَّسها عاصمة للعروبة ومَؤْلاً للأحرار. من بواباتها تستطيع متابعة العبور الحضاري والديني والثقافي، وكذلك الثبات على مقاومة وصدّ الطامعين والغزاة. فهي وإن اختبأت في غوطتها بين البساتين والأشجار، تحاشت أن تفارقها غدران بردى فأدخلت قنواتها إلى الدور والبحرات، ترتوي منه ماءً زُلالاً كحّل عيون أهلها بهاءً، ونفوسهم صفاءً. إن زرتها بعيون العاشق لرأيت ثمّ رأيت، في مواربة وانحناءات أزقّتها ودروبها، تعانق بيوتها وتهادي أزقتها كصباياها يتمالين في دلال ورقّة. لكنّ انحناءات مسالكها وطرقها بالنسبة للغزاة فيها رصد وكمائن، لإبطاء حركة الخيول المهاجمة واقتناصها. شبابيك نوافذها إطلالات على الخارج باستيحاء، لكنّها أيضاً شِباكاً ورَصداً للطامعين.
الدور هذه منغلقة على الخارج بأبواب تبدو قميئة لا تُغري للعابرين طرقها، لكنّها مفتوحة برحابة للداخل بإيوان مُشرّع ومزيّن بأشجار الياسمين والكبّاد والأزاهير العطرية، تتوسطه بحرة  يطل عليها مجلسٌ مشرفٌ يحتضن الزائرين، لتقول للضيف حللت أهلاً ووطئت سهلاً، هذه الدور كَنِسائها تحكي لك نمط أخلاقهن، فهنّ إذ يتلفعن بإزُرهنّ يمتنعن عن الغرباء ولا يَعْرِضن بضاعتهن على الأرصفة والطرقات، يُكننّ ويُخصصنّ ما حباهن به الله من جمال ورقّة للأحبّة ولمن يحسن العبور بالحواس الخمس. فإذا فُتح لك الباب أو كُشف الخمار وانزاح الحجاب، رأيت جنة صغيرة تكاد تقول هنا استوطن الحُسن وهنا تجسّدت آلهة الجمال، تدعوك لتقرأ ما لا تقوله الكلمات، فالدار تشعُّ بهاءً ونظافةً، والزّينة موروثة بتقاليد الزخرفة والنقوش، والمائدة المفروشة بأنواع مختلفة من الطعام تدعوك أن تتمهل ولا تلتهمه إلتهاماً، بل تتذوّق وتميّز تمييزاً، لتدرك من خلاله طعم الحياة التي تخصّ به ربّة البيت أحبّتها.
قسنطينة العاصمة الثانية لم تتواضع، بل شمخت فاعتلت صهوات القمم الشاهقة، وتحدّت الوديان السحيقة. وبنفوسٍ أبت الوضاعة، رفضت الذّلة والخنوع، فوصلت قممها بجسور مُعلّقة متحدّية الفرقة. قسنطينة هذه مُغلقة كناسها على الخارج ومفتوحة رحابة إلى الداخل، فمثلها كمثل ثمرة الرّمان مُعلّقة بين أغصان متعالية ومحصّنة بغلاف نُحاسي، لا لسبب إلّا لأنّ ما تختزنه بداخلها من حبّات اللؤلؤ والمرجان، والمرصوفة ياتقان لا تنفرط إلا للمتذوق انتقاءً، لتقول تذوّقوا واختبروا أحاسيسكم فليس ما تجدوه وما تأملوه إلا حمل أغصان نديّة مرنة متعالية تأبى الإنكسار، هي قسنطينة إذن، تقول حديقة رمّانها لمن يقرأ: ما اخترت الأعالي إلا لنسور «لا يرتجف منها الجناح خوفاً ولا يخذلها العنفوان»، رجالها هم نسور الجزائر الذين عرفتهم ثورتها عندما حاول المستعمر الفرنسي إذلال النفوس الأبيّة، فكان يُلقي بمن يقبض عليهم من المقاومين المجاهدين، من أعالي الجسور إلى القيعان السحيقة أمام جموع الشعب في محاولات لكسر شكيمته، وكان الردّ يأتيه من النسوّة الأمّهات؛ زغاريد تردّد صداها قمم الجبال والوديان، ليسمعها المستعمر في الجزائر كلّها وليصل صداها لباريس عاصمة أدعياء الحرية، زغاريد الفرح تلك لا يدركها إلّا من تجسّد فيه الإباء ومن اختار القمم مسكناً، زغاريد التضحية هذه تماثل تقديم القرابين، لا لإلهٍ طوطميٍّ بل لوطن قوميّ، فالوادي الذي تواضع من قبل ليتلقى الغيث والماء من قمم الجبال، لتنساب في عروقه قبل أن يوزّعها على الحقول وتروي بساتينها، هذا الوادي يتواضع ليستقبل الشهداء ويروي بدمائهم الزكية حقول الوطن بروافد لا تنضب. فكما المعصرات عندما تعانق القمم تنزل حملها ماءً ثجاجاً، هكذا هي قسنطينة وهاهم رجالها دماً ثجاجاً من وطن السحاب وحدائق النجوم.

عاصم المصري
بيروت في الأول من أيار 2015

هناك تعليق واحد:

  1. يقول المولى عز وجل [ قل سيروا في الأرض فانظروا..]
    فهل نحن نسير؟
    هل نحن ننظر؟
    هل نحن نعمل لنعلم؟
    هل نحن نعلم لنعمل؟
    أم هي نفوس ترتحل إلى زمن غير الزمن هروبا من واقع أدمى القلوب والمآقي
    كلماتك سيدي تبعث في النفس حنينا للوطن نحن بين أحضانه ..

    ردحذف