توضيح معنى
وقصد "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحيِمِ"
يفرض علينا منهجنا ، أن نبدأ
بتوضيح سبب استهلال بحثنا بِـ البَسْمَلمة . هل هي للتبرّك ، أو هي عادة المسلمين
في شعائرهم ، وابتداء أعمالهم ؟ لنعاين معاً تدبُر التّنزيل ، كيف أنّها وردت في
فواتح كافّة السّوَرِ القرآنية باستثناء سورة التّوبة ، التي تبتدئ بقوله تعالى :
{بَرَاءةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذينَ عَاهَدتُم مِنَ المُشْرِكِينَ}
التوبة1 ، هذا ما يبرهن قصد الابتداء بالبسملة في كافَّة السُوَرِ الأخرى ،
مستثنياً سورة التوبة . من المعلوم أنّ كلمة (السّورة) تعني المحاطة بالسور[1]
، والتي تمثّل وحدة واحدة ، فالتّوجُّه بافتتاحها بالبسملة ، يفيد أمراً مقدّراً
في الذهن والنِّيَّة ، وهو رسم القصد والغاية قبل ولوج باب السّور ، أي سور الآية
. نلاحظ ابتداء ءشبه الجملة بحرف باء الانبثاق في (بسم الله) ، وهو كما ورد في
بحثنا هذا "الأبجدية ودلالاتها" ، يمثّل ذراعَ وأداة العمل والحركة .
كما نلاحظ أنّ الفعل المقدّر الذي يسبق شبه الجملة "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ" هو أحد أفعال القلوب : أقرأ ، أهتدي ، أستنير ، أعلم ، أبصر ،
أتدبّر ... إلخ . فالاقتران اللّفظي ، وابتداء فواتح السّور بـ البسملة يوجّهانا
ويدلاّنا إلى ضرورة رسم الغاية من الفعل الّذي ننوي تنفيذه ، قبل الشّروع بالعمل
وعند المباشرة به ، وإلاّ يكون مسعانا لهواً غير قصدي التّوجّه .
ما هو القصد إذاً من (البسملة) ،
ولماذا اقترنت باسمي (الرّحمن والرّحيم)، وليس بأيّ أسماء الله الحُسنى ، كالعزيز
الحكيم ، والقدير الوهّاب ، ... إلخ ؟
نتبيّن الإجابة من قصديّة (الرّحمن
والرّحيم) ، في رسم غاية مسعانا عند ولوج أيّ سورة من سُوَر القرآن ؛ وبالتّالي
أيّ عمل ننوي القيام به ، ألا وهو البحث داخل آيات السورة التي ننوي ولوج بابها عن
(الرّحمن وعن الرّحيم) . إن أمعنّا النّظر والتفكّر بغاية ما نتوخّاه هنا ، نجد
أنّه العلم بما نجهل ، والهداية في أسلوب وطريقة أداء العمل ، فلا نقع في الخطأ
والخطيئة ؛ وبهما ومن خلال تدبّر ما يهدينا إليه التّنزيل في كلّ سورة ، نكون قد
حقّقنا القصد الّذ نوينا البحث عنه والعمل به ، فيعفينا (علم) الرّحمن من مشقّة
البحث ، بما توفّره السُورة من معلومات وعلوم ، و (عمل) الرّحيم بما يوجّهنا إليه
التّنزيل في السّورة من ضوابط سلوكية تقينا الخطأ والخطيئة في العمل . وهذا لا
نجده في مطلع سورة التّوبة التي استُهلّت بلفظة (براءة) بما تمثّل من تأنيب وتقريع
.
من المفيد أن نتبيّن الفرق بين
لفظتي (الرّحمن) و (الرّحيم) وفق المعنى الحركي للحروف وبدلالتها ، الذي هو غاية
بحثنا ، كما بيّنا تفصيله في نافذة الرّاء ، في تسلسل (ر-ح-م) و (ر-ح-ي-م)[2]
، وكذلك الاستدلال على تسلسل كل من (ع-ل-م) ، (ع-م-ل) ، في نافذة العين ، لما في
التقصّي من رابط قصدي ، مطلوب أن يكون إمَام ودليل وجهتنا في البحث .
نستدل من المعنى الحركي لكل من
لفظتي (علم) و (عمل) ، أنّ العلم يتضمّن ويستبطن العمل ، والعمل يتضمّن ويستبطن
العلم ، وكلٍّ منهما سبيل للآخر ، لاقترانهما بنفس الحروف ، وما في تبادل موقع حر
في اللاّم والميم إلاّ بياناً لتأكيد التّرابط فيما أكّدنا عليه ، وكذلك هي الحال
مع الـ (رحمن) والـ (رحيم) .
بعد التّعرّف على الدّلالة
الحركيّة والقصديّة للبسملة ، تتضح الإجابة عن السّؤال : من أين نبدأ ؟ فإذ
السّؤال يستبطن ويضمر مُسبقاً العمل ، فالمسعى إليه يكون بالعلم ، ومن رسم الغاية
أوّلاً ، فما هي غاية العلم إذن ؟
الإجابة فيما أوحى إلينا به
التّنزيل في سورة العلق ، وأمرنا بأن نقرأه بحرف الباء أوّلا ، لما هو من عالم
الغيب ، واستدعى فتح المجال في قوله : {اقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ الّذي خَلَقَ}
العلق1 ، وفي عالم الواقع بحرف الواو في قوله : {اقْرَأ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}
العلق3 ، فالدّلالة من السّياق ، والأمر بقراءة القرآن قراءتين الأولى بالباء
الانبثاقية ، والتي فتح لنا بها التّنزيل عالم الغيب ، والثّانية بالواو المكانية
التي أكرمنا الله بما وفّره لنا من هداية في تقليم ما ندرسه وتفحص أجزائه
ومكوّناته ، وتلبية تحقيق أمره بأن نَعْلَمْ لِنَعْمَل ونَعْمَل لِنَعْلَم ، فحيث
ينتهي الأوّل يبتدئ الثّاني ، وهكذا .
[1] تسلسل
(س-و-ر) وفقاً لمعنى حركة أصوات حروفه تعني : الهيمنة وبسط النفوذ بحركةالسين في
توجّه للتموضع المكاني بالواو وتكرار استمراره بحركة الراء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق