السبت، 29 ديسمبر 2012

المدارج والمعارج

المدارج والمعارج

قادنا مبدأ عدم هلاك الحركة، لنستنتج أنّ الموجة الصّوتيّة للأحرف تكشف عن انتقال حركتها المتذبذبة بين محوري الزّمان والمكان، بهواء الألف ومن خلال المخارج وبتوصيف المعارج، كما يلي:
  • المدارج، كما يُسمّيها الفراهيديّ، وتمتد من أقصى الحلق مُروراً بالمراكز السّبعة وهي: الحلق، ونطع الغار، وشجرة الفم، واللّسان مقدّمته ونطعه وأسلته، واللّثة، والأسنان ثمّ الشّفتان. نمثّلها بالمحور الأفقيّ للموجة الصّوتيّة.
  • المعارج (المراقي)، أطلقنا تسميتها على الحركات الأربعة. نمثّلها بالمحور العموديّ للموجة الصّوتيّة. وهي الفتحة الزّمكانيّة. الكسرة الزّمانيّة؛ تفيد بيان الباطن. والضّمة المكانيّة؛ تفيد بيان الظّاهر، أي خاصيّة التّموضع المكانيّ. ثمّ السّكون عند التوقّف؛ أي جهد التثبيت.
  • حرف الألف الممدود (ا) غير المكلّل بالهمزة كتابةً، هو مدّ زمكانيّ تمادت به حركة الفتحة، «فالفرق بين الألف الممدود والفتحة، لا يعدو أن يكون فرقاً في الكمّية» كما ذكر إبراهيم أنيس عن ابن جِنِّي وغيره، لذلك لا نجده في مطلع أي تسلسل كونه يماثل متابعة الانطلاق حضوراً. فهو بين بين، نشير إليه للتّمييز بالخط الممتد بين الزّمان والمكان صعوداً أو نزولاً، للأظهار موقعه بين الظّاهر والباطن، وعدم تصارعه مع التجاذب الزّمكانيّ للموجة الصوتيّة.
  • كلّ انتقال لحرف من الحروف في مدارجه، عبر المحور الأفقيّ، لا بدّ أنْ تعرج (ترقى أو تميل) به حركة من الحركات، في المحور العموديّ، وإن توقّفت فثمّة سكون. يلاحظ أنّ التنوين استخدم حرف النّون في تسميته للدّلالة على قصد حركته. وهي وفق المعنى الحركيّ تفيد الإنشاء المستمرّ. إذْ قيل في المعاجم: إنّ التنوين هو علم التنكير، وترْكُه علم التعريف. نستنتج أنّ تنوين الضمّ يدلُّ على استمرار إنشاء العروج المكانيّ، وتنوين الفتح عند استمرار إنشاء التواصل الزّمكانيّ، وتنوين الكسر عند استمرار إنشاء التّواصل الزّمانيّ.إنّ نطاق التواصل موجة صوتيّة محمولة بين قُبّة قوس الظّاهر وقُبّة قوس الباطن، أي قاب قوسي الظّاهر والباطن. ذلك أنّ قبّتها وهي مُتحرّكة لها ظاهر وباطن: إنْ كانت صعوداً فوق المحور الأفقيّ، ويكون لها باطن وظاهر إنْ كانت نُزولاً تحت المحور الأفقيّ. وعندما تتوقّف الموجة عند أُذن السّامع يكون السّكون. وهذا مسار الحركة في الكَلِمة، تفصح عنها الفتحة والضّمّة والكسرة والسّكون. تبدأ الحركة وفق منهجنا بالهمزة، فتصعد ظاهراً كي تلامس مسامع ومدارك المُخاطب. ثمّ تنزلق عند نُقطة التّماس مع المحور الأفقيّ إلى باطن ينتهي بموجَة جديدة مُتصاعدة، وهكذا دواليك. وعند هذا التّماس يتداخل الالتباس بين قوس الظّاهر وقوس الباطن، فإن استوعبه المتلقّي انحنى استمراراً في التّواصل.
    دلّتنا معارج الحركة، الّتي يتذبذب خلالها الصّوتُ صُعوداً ونُزولاً، في موجة ونطاق التّواصل بين قوس الظّاهر وقوس الباطن، أنّ حركة الواو بالضّمّة حيث يتموضع الصّوت، تمثّل تعارض الجاذبيّة للتثبّت المكاني، وهي إيحاء وتوجّه لبيان المكان، ليظهر أنّ الصّوت هو عند الشّفتين وبهما. فهي إذن مَنطق الظّاهر. بينما في حركة الياء بالكسرة كمدلول زمني، وحيث الزّمان يضمر الاحتمالات المجهولة، يبطن الموجة نزولاً. فحركة الياء مسترجِعة موجةَ الصّوت إلى حيث بدأت تفرض الملاحقة، فهي تساير الجاذبيّة وتمتد معها، مِمّا يعني منطق الباطن. وعندما تمادت حركة الفتحة بين الزّمان وبين المكان، دون مقاومة للجاذبيّة، تجمّد اتجاهها بين الظّاهر والباطن، ليتشكل ألف المد، فهو مستتر بصيغ الهمزة والواو والياء. ويمثّل التعامد بين الزّمكان، إذ لم تأخذ الموجة المدلول النّهائي، ففيها احتمالي الظّاهر والباطن، وما يحدّد الإتجاه النّهائي لها هو العلاقة الجدليّة مع الحرف الذي يبدأ التسلسل، في مسعى للولوج به إلى بابي الزّمكان.
    فإذا قرأنا دلالة مدارج حركات الحروف، وفق نسق مخارجها، يتبيّن لنا أنّ الحركة في المحور الأفقي تبدأ بهمزة ألف التّأليف. إذْ نُقطة الانطلاق من أقصى الحلق بالهمزة تهمز هاء الهواء، الّذي هو أساساً يخرج من جوف الرّئة قبل أنْ يصدح بالصّوت الّذي يحمله. عند المرور مُتدرّجاً من الحلق تنشأ حركة المعاينة بحرف العين. ثُمَّ يصعد في تعاظم متنامٍ بحرف الحاء، ثُمّ يعزّز بقوّة حرف القاف. وعند أدنى الحلق، يتمّ الغبش بحرف الغين، فيتدرّج صعوداً إلى الإخماد بحرف الخاء. إلّا أنّ الأنفاس تتابع حمل الأصوات، على متن حرف الهاء. عندما تصل إلى شجرة الفم، ونطع الغار، يتحرّك اللّسان لاعِباً أساسيّاً مُكتِّلاً بداية بحرف الكاف، ومضخِّماً بحرف الطّاء، ومعظِّماً بحرف الظّاء، وصادّاً بحرف الصّاد، ومُلزِماً بحرف الضّاد، ومُنشئاً بحرف النّون، ومُستجلباً الجهد بحرف التّاء، وموصِلاً بحرف اللّام، ومُكرّراً بحرف الرّاء، ومُتحسّساً بحرف الذّال، ومُثَنِّياً بحرف الثّاء، ودالاً بحرف الدّال إلى بوّابات ءَالة النّطق: اللّثة والأسنان للتصفية والإبراز بحرف الزّاء، والشّفتان لانطلاق النّطق، فإنْ هما أُطبقتا إطباقاً فللدّمج بحرف الجيم، أو سمحت وسهّلت المرور فهو بحرف السّين، وإن شعَّبته فبحرف الشّين، حتّى يصل مخرج الشّفتين، فيديمه حرف الياء، أو يفصل بأمره حرف الفاء، أو يسترجعه حرفُ الميم للإتمام، أو يتموضع بحرف الواو. ثمّ بعد ذلك يؤكّد انبثاقه حرف الباء، مُعيداً الصّوت إلى بداية انطلاق الحركات بالهمزة. وهذا ما يوضّح جدل الحرف.
    إنّ كلّ حركة عامّة من حركات الحروف، تتألّف من ثلاثة أصوات هي عبارة عن فعل ما، والحرف الثّالث في الحركة كما رأينا في التّسلسلات، يعمل عمل لام (فعل) في موضع التّلاحم بين الصّور الثّلاثة للأصوات. هو الّذي يوحّدها ويجمعها. فكلّ صوتٍ يأتي في ءَاخر اللّفظ يعمل حركته الخاصّة بأسلوب اللّام. وهذا ما يمثّل جدل اللّفظ، فكل لفظ هو مكان في ذاته وزمان كامن فيه، يظهر دوره في جدل السّياق.

    مظاهر حركة الألف أربعة: الهمزة، والواو، والياء، والألف اللّينة الممدودة. تُفاعِلُها صيغٌ لها في البناء اللّغوي هي: السّكون، والضمّة، والفتحة، والكسرة، كما بيّنا. تُعتبر هذه الصيّغ مادّةً لبناء الأصوات وتراصِّها مع بعضها. بدون هذه المادّة لا يمكن تشكيل المفردات. فهي الّتي تؤثّر على الصّورة النّهائيّة للصوت. وكلّ صوتٍ لا بدّ أن يرتبط بتوصيلةٍ واحدةٍ من هذه الأربعة، ليمكِّنه الارتباط بصوتٍ ءَاخرٍ كما لو كان كلُّ صوتٍ يعرّف نفسه للآخر مُستعملاً إشارةً من مادّته الأصلية الّتي تكوَّن منها. أقلُّ مُفردة لا بدّ أنْ تتألف من صوتٍ واحدٍ مُستقلٍّ مع واحدٍ من هذه الصّيغ الأربعة، لتكوين حركة تخصّ هذه المفردة الأحاديّة الصّوت. الهمزة كما قلنا، نقطةٌ لابتداء ظهور حركة الألف. مثلها مثل الخط يبدأ بنقطة. إذن، نقطة الأصل همزة مُطلقة بين خطَّين على محوري حركة صوت الحرف. يفترض أنّها بلا حركةٍ. ولكن بما أنّها جزءٌ من حركة الألف تكون الفتحة في أصل تكوينها. لكنّها قد تأخذ شكلاً زمانيّاً (الياء)، أو مكانياً (الواو). هذه الهمزة هي أوّل حركةٍ ممكنةٍ بدون تحريكٍ لأدوات النّطق. يمكن أن تكون أيضاً ءَاخر حركة الألف بالاتجاه المعاكس. فهي جزء منها ولا يمكن أن تتكوّن بدونها، أمّا حركة الألف نفسها فلا يتأثّر بها ولا يتوقّف وجودها عليها.

هناك تعليق واحد:

  1. أظن أن هذا الأفكار الآن أصبح من الممكن اخضاعها للعمل المخبري مع الأجهزة الحديثة التي توصل إليها العلم لقياس الأصوات ونحوها أليس كذلك سيدي؟
    فلو دعمتم ما ذهبتم إليه من أفكار بالتجربة المعملية من أهل الاختصاص أظن بحثكم سيعصف بما ترسخ في أذهان العام و الخاص عن اللغة وستفتح آفاق البحث واسعة في كل المجالات والعلوم ويسترجع الفكر العربي خاصيته الجدلية التي قادت العالم في وقت مضى

    ردحذف